فقد الإدراك كمانع من المسؤولية الجنائية: دراسة تحليلية في ضوء المادة 54 من قانون العقوبات القطري

فقد الإدراك كمانع من المسؤولية الجنائية: دراسة تحليلية في ضوء المادة 54 من قانون العقوبات القطري

يشكل مبدأ المسؤولية الجنائية أحد أعمدة العدالة الجنائية، إذ لا يمكن مساءلة الشخص إلا إذا توافرت لديه القدرة الإدراكية الكافية التي تمكّنه من التمييز بين الخير والشر، والصواب والخطأ. وقد عني المشرع القطري بهذا المبدأ أيما عناية، فنص في المادة (54) من قانون العقوبات على أن لا يُسأل جنائيًا من كان وقت ارتكاب الجريمة فاقد الإدراك أو الإرادة…”، مما يكرّس مبدأ أن الأهلية الجزائية ترتبط بحالة الذهن وقت الفعل، لا قبله ولا بعده.

إن فقد الإدراك أو الإرادة، سواء كان ناتجًا عن جنون أو عاهة عقلية أو مرض عصبي مزمن أو غيبوبة عارضة، يعد مانعًا من موانع المسؤولية الجنائية، إذا ثبت أن الشخص وقت ارتكاب الفعل لم يكن قادرًا على استيعاب ماهيته أو توجيه إرادته وفقًا لما يمليه العقل السليم. فالأساس هنا ليس توصيف الحالة الطبية فحسب، بل أثرها الفعلي على الإدراك والإرادة في لحظة ارتكاب الفعل.

ويلاحظ أن المشرع القطري قد تبنى في هذا النص نهجًا موسعًا، فلم يقتصر على اصطلاح “الجنون” ذو المدلول الطبي الضيق، بل أضاف تعبير “عاهة في العقل”، وهو ما يفتح الباب أمام تقدير قضائي مرن لحالات الاضطراب العقلي والإدراكي المختلفة، دون التقيد بتعريفات الطب العقلي الصرفة. وهذا ما أشار إليه الفقه الجنائي المقارن، حيث بيّن الأستاذ الدكتور محمود نجيب حسني أن الشمول في النص يجعل القاضي في غنى عن تتبع التصنيفات الطبية، بل يكفي أن يثبت زوال التمييز أو ضعف الإرادة في وقت الجريمة، حتى ولو لم تكن الحالة المرضية ناتجة عن اضطراب دائم أو مزمن في المخ.

إن شرط المعاصرة بين فقدان الإدراك وارتكاب الفعل يمثل الركن الجوهري لقيام مانع المسؤولية، إذ لا يُعتد بالحالة المرضية إلا إذا ثبت أنها قائمة فعليًا لحظة التصرف المجرَّم. وعلى القاضي الجنائي أن يُعمل سلطته التقديرية في ضوء ما يُعرض عليه من تقارير طبية، وشهادات، وقرائن خارجية، دون أن يكون ملزمًا حرفيًا بما ينتهي إليه الطبيب المختص، ما دام استخلاصه مستندًا إلى وقائع ثابتة ومبررة.

وقد أكد القضاء المقارن – بما في ذلك قضاء محكمة التمييز – أن رفض الدفع بانعدام المسؤولية الناشئ عن عاهة عقلية يجب أن يكون مسببًا تسبيبًا كافيًا، وإلا عُد الحكم معيبًا بالقصور في التسبيب. فإذا كان الطاعن يستند إلى تقارير طبية ثابتة، تشير إلى إصابته بحالة مرضية مزمنة تؤثر على قدراته الذهنية وتلازمه منذ وقت سابق على الواقعة واستمرت إلى ما بعدها، فلا يسوغ للمحكمة أن تلتفت عن هذا الدفاع الجوهرى دون فحصٍ جادٍ ودقيقٍ لأسانيده. بل إن استبعاد هذا الدفع دون مناقشة ما استند إليه من تقارير أو ظروف شخصية قاهرة يشكل إخلالًا بحق الدفاع ويفسد الاستدلال القضائي.

ومن المبادئ المستقرة كذلك أن فقدان الإدراك لا يعني انعدامه الكلي، وإنما يكفي أن يكون هذا الإدراك منتقصًا بدرجة تجعل الإرادة غير ذات قيمة قانونية. ولذلك، حتى في حال بقاء مظاهر إدراكية أو سلوكية ظاهرية، يظل من المتصور قانونًا أن ترفع المسؤولية عن الشخص إن كان ما تبقى لديه لا يرقى للحد الأدنى من الأهلية المطلوبة جنائيًا.

وفي الحالات التي تُثار فيها دعاوى الحجر لاحقًا على التصرفات القانونية محل الجريمة – كما في طلبات توقيع القوامة بسبب الشيخوخة أو فقدان الإدراك – فإن هذه الوقائع اللاحقة لا يُنظر إليها بمعزل عن الظروف السابقة والراهنة للفعل، بل تُعد قرينة مهمة على امتداد الحالة المرضية المؤثرة في زمن الجريمة. فالحكم بالحجر على شخص لعدم قدرته على إدارة شؤونه المالية والمعيشية يُعد حجة قوية، إذا ارتبطت هذه الحالة بتقارير طبية سابقة ومتسلسلة، على أنه كان في حالة فقد إدراك عند تحرير تصرفاته محل الملاحقة الجنائية.

إن تطبيقات المادة (54) من قانون العقوبات القطري، في ضوء ما تقدم، تُظهر أهمية التوازن الدقيق بين حماية المجتمع من الجريمة، وضمان ألا يُحاسب جنائيًا من لا يملك القدرة العقلية أو النفسية على فهم أفعاله أو توجيه إرادته. فالمساءلة الجنائية تفترض وجود إرادة حرة وواعية، وأي افتقاد جوهري لهذه الإرادة يسقط الركن المعنوي للجريمة، ومن ثم يجب أن يترتب عليه حُكم بالبراءة لا العقوبة.

العدالة الجنائية ليست مجرد إدانة من يرتكب فعلًا مخالفًا للقانون، بل تتطلب التيقن من توافر عناصر الجريمة، وعلى رأسها المسؤولية الأدبية. وإنكار أثر العاهة العقلية أو فقد الإدراك، رغم ما تؤكده التقارير الطبية، يُعد انتقاصًا من هذا المبدأ، ومخالفة لصريح النص وروحه. لذا، ينبغي للمحاكم أن تتعامل مع هذه الدفوع بكامل الجدية والتعمق، احترامًا لحقوق الإنسان ومبدأ المحاكمة العادلة.

المراجع:

  • المادة (54) من قانون العقوبات القطري.
  • د. محمود نجيب حسني – شرح قانون العقوبات المصري – القسم العام – دار النهضة العربية – طبعة 2012، الصفحات 590–600.
  • طعن تمييز جنائي رقم 180 لسنة 2009 – جلسة 15/6/2009.

Post Your Comment

This site is registered on wpml.org as a development site. Switch to a production site key to remove this banner.